ملجأ
في خِضمِ وَقعَتِي، كنت أئنُ من وجعي؛ وجع الصفعات، وجع الخيبات، وجع الكدمات التي أُوتِيتُها، ووجع الحياة وابتلاءاتها. والأكثر إيلامًا أن عزائي لم يكن في الكلام، بل كنت أنطوي على نفسي وألتزم بقلّة الكلام وعدم البوح، وتبدأ تلك الصراعات داخلي، ويبدأ الكلام هناك بين نفسي ونفسي، لا ينفك الضجيج وأنا في حالتي تلك.
لا أقترب بل أهرب من الجميع، ومن سيفهم زفرات روحي؟ من سيعي أني أتوجّع والألم يحوطني من كل صوب؟ ومن سيظُن أنه متهم أو كان سبباً فيما اعتراني من ألم؟ الكلُ بريء ويستنكر مُصابِي ويعاتب، فأهرب لنفسي أضمّد جراحها وأكفكف دموعها وأواسيها ببعض ما يسعني أن أقول أو أفعل فتطيب نفسي قليلًا بذلك وتعود لتخاطبني؛ ماذا وكيف ولماذا؟ تثقلني بأسئلة ولوم وعتاب متواصل، ودعوات مكتومة يصاحبها وجعي وكتماني، تضيق بي السبل للكف عن هذا الضجيج الذي يغزوني، ويشل أركاني، ويعيق ابتهاج روحي.
بلمسة يدها الحانية ونظراتها الحنونة، استطاعت صديقتي أن تقرأ ما في العيون من وجع وما في القلب من ألم، فازدادت تمسكًا بيدي حتى لا تفلتها، وعانقتني بكل حب أن لا تخافي ولا تحزني أنا بجانبك؛ وجعك هو وجعي وألمك هو ألمي، وغمرتني بلطائفَ من المواساة وتهدئة النفس، كلامها الواثق المتيقِن بالفرج أزاح عنّي عتمة حالكة من الحزن فشاركتها أفكاري وما يجول بخاطري، طرحت لها تساؤلاتي، تحدثنا وتناقشنا حتى طربت نفسي قليلًا وانزاح أنينها.
لكنّ الألم مخادع؛ يستوطن في أعماقي، لا يشفي غليله شيءٌ سوى مَزيدٌ من التوسع بي، ولا يسعنا التصالح في ما بيننا وأنا أحاول الانقضاض عليه وهو ينغرس أكثر، فأبحث له عن طريقة أخرى لترويضه.
أمسك القلم وأجاهد نفسي لأُخرِج ما تعبر عنه من أفكار، ما يخنقها من كلمات أو حتى عبرات، المهم أن أخفف قليلًا من الآلام التي تأسرني، ولكم كنت مأخوذة بقراءة الكتب والغوص في بحارها، أسلّي نفسي بحيوات أخرى وحكايات أخرى ومعارف كنت أجهلها، فأنسى، نعم أنسى لبعض الوقت، لكنّه ثابت بداخلي عند استفزازه، هذا الألم يجب مجاراته لا محالة، فاستمررت في مجاهدة نفسي على الكتابة؛ أكتب كل ما يخطر لي؛ أكتب عن الألم، عن السعادة، عن الوجع، وعن التفاصيل العابرة، عن المواقف اليومية، عمّا مضى وما يمضي، كنت يائسة في البداية وأتألم مع كل كلمة أو كل حرف أخطُه، لأنني أكتب بصدق عن كل ما أمر به، أو ما مررت به، سواء كان شعورًا دفينًا أو شعورًا راودني بغتة، لا أتكلّف الكتابة بل أكتب ما ينتابني بشفافية؛ أكتب تساؤلاتي، أكتب حَيرتي وسَخطِي وعَتبِي وازدرائيِ.. كتبت كثيرًا، حتى اعتدت الكتابة وأفرغت الكثير من جعبة الكلام داخلي، خفّ الحِملُ عنّي واستنارت دواخلي وأصبحت أنظر للحياة بخفّة حقيقية، وأراها من منظور مختلف عمّا سبق، على الأقل تصالحت مع الألم، عشته بتفاصيله وتعافيت منه، وطُوّعت لي هذه الخفّة بعد محاولات متكررة، أمسك القلم ولا أتركه إلا بعد تفريغ أفكاري، مرّات ومرّات حتى أصبحت أجد ملجئي فيها، في كل حادث يلامسني من قريب أو من بعيد أعود للقلم، أبوح لنفسي، أتركها ترتاح، ثم أستعيدها أكثر قوّة وتماسكًا، وأكثر تصالحًا مع الحياة. لم تُخيّبني مرافقة الكتب يومًا، حتى لو أثقلتني أحيانًا، ولم يُخيّبني قَلَمي الصدوق حتى وإن أثقلتُ عليه، فهما سر استمراري بصفاءٍ مع الحياة، ولم تتخلّى صديقتي عن أن تكون بجانبي يومًا، فكم أنا محظوظة بهم!
كلمات سهله وانسيابية جميلة. استرسال جميل وتعبير عن مشاعر داخليه ونزاعات نفسيه لا يقوم بترويضها إلا الكتابة والبوح بكل الافكار و المشاعر بهذه الطريقة الرائعة. وفقك الله