وهجُ حلمٍ وسعيرُ عودة

وهجُ حلمٍ وسعيرُ عودة

 

لم تكن تلك المدينة التي تلوح بأنوارها من وراء أفق الحلم، ومن خلف ستار الطموح قد كشرت عن أنيابها بعد للبعيدين عنها، أيكشر الأسد عن أنيابه قبل أن تقبل عليه الفريسة؟
هذه الصورة التي تراءت في مخيلتي حين استعدت الذكرى، أو بالأحرى، أنا قابعٌ فيها لم أبرحها بعد، تأبى مفارقتي وتأبى الحرب إلا أن تستعر بالضحايا، هل اكتفيتِ؟ هل من مزيد؟
أقف الآن على حافة من العمر رقمه ستة عشر ربيعا،
أو ليكن فصلا غير الربيع، فصلا يقف بينهما حيث لا شيء اكتمل بعد، لا هو بالمزهر المثمر ولا هو بالمتساقط المتيبس، أجل سأفعلها، سأصبح الطبيب الذي أرغب، سيسبق اسمي بذلك الحرف: د.
حرف من أعوام أصنعه بنفسي لأجل نفسي
حرفٌ سيأكل من عمري سبعة أعوام، أو هذا ما كنت أظنه حينها، ليته أكل السبعة وترك لي بقية من عمر يعيش بها قلبي!
تتوالى الأعوام وتلك المدينة الغربية تزداد وهجًا، وأنوارها تسطع مُعميةً عينيَّ عن كل شيء سوى حرف الدال الذي أطمح له.
على أعتاب المطار دموعٌ تُذرف، أطفال تُيتمُ في حياة والدهم، أمهات ثكلى لفقد أبناء بطونهن، وهم على قيد الحياة مسجلون ويتنفسون، لكنها الغربة تُيتِّم وتثكل، باتت صرحًا للدفن، وكان أولى بها أن تسمى مقبرة، وجوازات السفر شهادات لا حياة.
لم يبدُ لي ذلك الأمر كذلك قط، فعيناي مغلفتان بستار تعرفونه، لم أكترث لدموع أمي حينها ولاحمرار جبين والدي وخديه وعنقه
– هيَّا لا تبالغوا، سيمضي الأمر وسأعود بلقبي وشهادتي إليكم.
– لكنها سبعة سنوات يا بني، سبعة جيل ينشأُ بها، ولا أعلم أسأراك أم سيسبقك الموت إلي!»
– لا تكوني متشائمة يا أمي، قبلت رأسها على عجل، واحتضنت والدي، لوحت لأخواني وأنا مدير ظهري لهما وأمشي بخطى سريعة نحو ذلك المغناطيس الذي يجذبني.
مضت الأربعة أعوام الأولى بسلاسة، أهاتف والدي بين الفينة وأختها من الشهور،
وفجأة ودون سابق إنذار وباتصال مدته دقيقتين:
– حسن، مدينتنا تُقصف، لا تقلق نحن بخير لكنا خفنا من أن تصلك الأخبار من التلفاز ويصيبك ما لانرضاه!!
– قصف ماذا من من، متى لماذا!
وقبل أن يجيب أخي على تساؤلاتي سمعت دوي انفجار انقطع على إثره الاتصال، حاولت محاربة أفكار الشؤم في رأسي بأن هذا عائد إلى الشبكة السيئة في بلدي، فلطالما انقطع الخط وأنا أحادثهم، والصوت ياحسن!!
ترااءى لي ذلك لأن أخي يحدثني عن قصف
كان هذا ما أقنعت نفسي به طوال أشهر لم أمسك بها سماعة هاتفي لأتصل بهم أو لأعرف حالهم، كنت أعلم في قرارة نفسي أنهم قد لقوا حتفهم، لكني قاومت شعوري بل ألقيت بمعرفتي في حفرة التجاهل ووضعت نصبا حجريا قاسيا عليها نقشت فيه سأعود إليهم حاملا لقبي وشهاداتي، سيكونون هناك لأجلي، لا لا، لن تذهب أمي إلى مكان ستنتظر عودتي، لم أعد إليها قبلُ ولم أجدها، دائما ما كانت هناك على شباك غرفتها المؤطر بورد يشبه رقتها ويفوح بعبيرها، أمي هناك ستنتظرني، أعلم.
هأنذا أحمل قبسًا من ذلك الضوء الوهاج الذي اجتذبني، على رأسي قبعةٌ مربعة بلون أسود كالذي ستؤول إليه حياتي أو آلت دون ملاحظتي بعد، أبيت إلا ارتداء عباءتي وقبعة حلمي وقبسا أبيض محاط بشريط أحمر لأجد أمي تنتظر عند شباكها المؤطر، تجاوزت السحب والطرقات السريعة وجوانبها التي اختفى لونها فباتت أنقاض بنايات بلون مغبر، كان قلبي يزداد رجفة مع كل بناء قد سوي بالأرض، عدت يا أمي، عدت يا أبي، عدت يا أخي، هذا ما كنت أردده بعقلي لأمسح رجيف قلبي المعترف بحقيقة ما سأراه الآن وسأكابده بقيَّة عمري، بخطى مسرعة ومبطئة في آن بعد أن ترجلت من السيارة، وقطعت الشارع الموصل إلى منزلي خلف حقول الذرة، وذات عودةٍ لم أرَ شيئًا، منزلي ليس هنا، أمي ليست على شباكها، بل إن شباكها برمته ليس في الصورة، كثبان من التراب، ونصف حائط لم يخر بعد، وجدتني فيه، كل عمدان حياتي قد انهدت وكل جذورها قد اجتثت وبقيت أنا ونصف الحائط، أنا هو ذلك النصف الذي قضت الحرب على بقية أركانه وتركته شاهدًا مكلومًا على ما حلَّ به.

 

صوفيا آدم‏
‏@1fP2vP3aoiAmAl9

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.