حقائب
هُنا صالة انتظار المُرحَّلين قسرًا من مواطنِ الذكرى إلى مواطن القلق، حيث يمكث أصحاب الحياة المزوّرة على أسنَّة الانتظار الحادَّة، هنا ننتظر تحت ظلِّ الأماني بأعين تائهة وملامح يائسة وأرواح عطشى لعودة الماضي لكنا ما نلبث حتى تهبّ رياح الواقع علينا فيمضي ظلّنا ويتركنا لمصيرنا الآتي، مصيرنا الذي يشرق يومًا فينا ويغيب قبل أن نفتح أعيننا. تُرى ما الذي ستحمله حقائب المُرَحَّلين؟ سأجيبك: ما يحمله مفجوع بغارة؛ إذ يجمع بعجلة كل ما وقع تحت يديه قاصدًا أولاً حاجاته المُلحَّة، ثم المفضَّلة، ثم يترك البيت: الحاجة الأهم، الراسخة لدرجة ألا تؤخذ؛ لأنها لا تمضي بل يُرجع إليها. أخذنا صور سنواتنا السعيدة وأشخاصها وتواريخها، وتركنا نفوسنا هناك معلّقة على جدران زمانها (بيتها الأول والأحبّ)، وما إن وطأت أشباحنا عتبة الحاضر -هنا حيث نقف- حتى دبَّ الاضطراب بنا؛ إذ اكتشفنا أنَّا نحمل حقائب كثيرة مرقَّمة لكنها فارغة إلا من بعض الصور، يُقال أنها أعمارنا! هراء! أنا لم أعش كل هذه الأشياء الفارغة، أعرف سنواتي القليلة والمليئة! سكنّا بعد هذا الاضطراب وراحت تُهَدهِدنا ذكرياتنا السعيدة وتكاد ترفعنا عن الأسنّة لولا أنّا مُثقَلين بتلك الحقائب، غير أن تلك النداءات المتكررة والمزعجة أيقظتنا، نداءات تحثُّنا على الاستعجال للَّحاق برحلات لا ندري إلى أين نركبها ولماذا، رحلات وسائلها ترى أنّا بعيدون جدًا عن سحائب موطننا وقريبون جدًا من سرابٍ مستقبل، ونحن بين نارَيّ الانتظار والابتدار: ماذا نفعل، أنمكث عالقين هنا في فراغ وبين فراغين ومع فراغ، أم نركب إلى الفراغ؟
ماذا لو مَللْنا أو تعبنا من حمل حقائبا الثقيلة وأردنا أن ننزل ونحن في السماء؟ ماذا لو وصلنا لوجهتنا وكانت سرابًا؟ ماذا لو وصلناها ووجدناها ينابيع لكنَّ العطش قد شلَّ أيدينا؟ ماذا لو أنها فاتتنا ونحن نجرُّ حقائبنا؟ ماذا لو أنَّا لم نرحل ورحَّلتْنا الحقيبة رقم 80 داخلها؟
نوف
@n_5_f
اترك تعليقاً